من المقرر أن تجري الانتخابات الرئاسية في لبنان الأسبوع القادم، رغم حقيقة أنّ الانتخابات البرلمانية لم تحدث بعد، وأنّ البرلمان اللبناني هو الذي ينتخب الرئيس. في العام الماضي تم تأجيل الانتخابات للمرة الأولى في تاريخ الدولة، ومدد البرلمان بشكل غير شرعي فترته دون انتخابات، مما يثير المزيد من الشكوك حول شرعية التنافس الانتخابي الرئاسي الذي يحوم في الأفق.حتى الآن، عبّر عدة مرشحين رئاسيين محتملين عن اهتمامهم بالترشّح، وكلهم موارنة مسيحيون، وفقاً للنظام الدستوري اللبناني حيال تقاسم السلطة بين الطوائف. إنّ ثلاثة من أبرز المرشحين المحتملين مشهورون بسبب تورطهم في الحرب الأهلية اللبنانية ( 1975-1990)، وهم سمير جعجع وميشيل عون وأمين الجميل. إن جميع من كانوا يسكنون في لبنان أثناء الحرب لديهم قصص وذكريات عن هؤلاء الرجال وجرائمهم في زمن الحرب.
على أي حال، إن الحرب الأهلية هي أيضاً حرب ذاكرة، وبينما يرى كثيرون (وبينهم أنا نفسي) أن هؤلاء الرجال مجرمون وقتلة، فإنهم، بالنسبة لآخرين، كانوا وما يزالون حماة وقادة سياسيين شرعيين. لم يحدث أبداً نقاش صريح وعلني حول الطرق التي كان فيها مشهد ذاكرة الحرب الأهلية اللبنانية متشظّياً ومستقطباً كما كانت الحرب نفسها. وإذا ما استخدمنا كلاماً مستهلكاً: أثناء الحرب كانت كوابيس طفل واحد مسكونة بأبطال أطفال آخرين. لم تتبع هذه النماذج صيغة طائفية ضيّقة، بما أن الحرب الأهلية شهدت أيضاً مسلمين يقتلون مسلمين ومسيحيين يقتلون مسيحيين بسبب الإيديولوجيا، والتهجير، واقتصاد زمن الحرب. فضلاً عن ذلك، انتشر أمراء الحرب والفصائل المسلحة من ونحو جميع الأطراف أثناء الحرب الأهلية. وفي الحقيقة، إنّ أمير حرب آخر ومجرم حرب تحوّل إلى سياسي، هو نبيه بري، سيكون من واجبه كرئيس لمجلس النواب الدعوة لإجراء الانتخابات الرئاسية. ثلاثة من المشابهين له في زمن الحرب؛ جعجع وعون والجميل يمكن أن يرشّحوا للرئاسة.
كنت أحد أولئك الأطفال الذين يرون الكوابيس. فقد كنت أعيش في بيروت الغربية مع أسرتي أولاً في الطريق الجديدة، ثم في وطا المصيطبة، وأخيراً في منطقة سليم سلام، حيث ما تزال عائلتي تعيش. إن الذاكرة ليست علمية أبداً، وذكريات الطفولة هي دوماً موزاييك ممزّق من الأحاسيس ومما هو سريالي. ربما هي أكثر صدقاً بهذه الطريقة. في الوقت الذي كنت فيه في الحادية عشرة، جميع الشقق التي عشنا فيها قُصفتْ وأطلقت عليها النار. قصف الجيش اللبناني بقيادة الجميّل الطريق الجديدة ومعها بناءنا، وظهرت على واجهة بنائنا في وطا المصيطبة نماذج معقدة من نار الرشاشات، أما الشقة التي فوق شقتنا مباشرة في سليم سلام فقد قصفها وأحرقها الجيش اللبناني بقيادة عون. تبدو هذه الذكريات دوماً كأنها تخطر في ضوء شمعة، تجارب متذبذبة شائعة لدى سكان بيروت في ذلك الوقت. في الحقيقة إن أفراد عائلتي كانوا محظوظين جداً: فقد نجوا جميعاً. لم يصب أحد بعجز دائم. لم نغادر لبنان أبداً ولم نفقد منازلنا أبداً.
فيما أقرأ وأشاهد جعجع يطلق التصريحات الصحفية حول ترشّحه، أتذكر الموقع المرعب الذي كان يشغله بالنسبة لي ولأصدقائي في الطريق الجديدة. أذكر مراقبة قذائف الهاون وهي تنفجر من نافذة مطلة على الشاطئ الشمالي مع زملائي في المدرسة أثناء الحرب بين عون وجعجع. أذكر عاماً أمضيته في ضاحية بيروتية جبلية، بعيداً عن المدرسة وعن شقة لا يمكن الدفاع عنها قريبة من "الخط الأخضر". أحاول اليوم أن أتخيّل ما الذي تفكّر به فلسطينية في لبنان حين تشاهد جعجع على شاشة التلفزيون يتحدث بثقة عن لماذا يجب أن يكون هو الرئيس؟ هل سيتحطم قلبها حين لا يسألُ أيٌّ من الصحفيين جعجع عن تورطه في مجازر زمن الحرب؟ هل تحطّم قلبها مرات كثيرة في لبنان، وهل تقوم بتغيير القناة فحسب؟ لا أحد يسأل جعجع، أو خصمة الجميل، عن ثلاثة تحالفات مع إسرائيل في زمن الحرب، أو عن تواطئهما في حصار بيروت الغربية، أو حروبهما مع قادة موارنة منافسين، التي قتلت وأعطبت الآلاف.
أتذكر الاستماع إلى الأنباء مع أسرتي في الطريق إلى المدرسة في اليوم الذي غادر فيه الجميل بيروت إلى باريس. كان يوماً مفرحاً. قبل سنوات عثرتُ حين كنت في الخامسة من عمري على ذخائر غير منفجرة على شرفتنا في الطريق الجديدة. كان أمين الجميل رئيساً وأمر الجيش بقصف المنطقة. رفض كثيرون الأوامر وفرّوا. أودّ أن أفكّر أن الذخائر غير المنفجرة على شرفتنا كانت نتيجة تدخل جندي أزال بوعي مواد انفجارية من قذائف الهاون، عارفاً أن هذا الفعل سينقذ حياة السكان. في الحقيقة، لم نمتلك فكرة لماذا لم تنفجر القذيفة. كنا محظوظين فحسب.
كنا محظوظين ثانية حين قصف الجيش اللبناني حارتنا أثناء "حرب تحرير" عون ضد الجيش السوري، الحرب التي على ما يبدو اقتضت من الجيش اللبناني أن يقصف بكثافة مناطق مدنية مكتظة في بيروت الغربية. في ليلة مرعبة بنحو خاص، فيما كانت عائلتي محتشدة في ردهتنا حيث كنا ننام لأيام، نشرت أمي ذراعيها على حائط وقبّلته. كانت هذه الذكرى الأولى التي أمتلكها عن والديّ كشخصين عاديين؛ ضعيفين وخائفين ومعرضين للخطر. لم يهزني شيء هكذا بعمق طيلة حياتي كما حدث لي تلك اللحظة، وأنا أراقب أمي وهي تضم حائطاً اسمنتياً في ليلة من القصف العنيف.
إن تراث عون وجعجع والجميل هو مئات الآلاف من القتلى والجرحى أثناء الحرب الأهلية اللبنانية. إن تراثهم هو المجازر والحصارات وقذائف الهاون والقناصون والخطف وملايين الدولارات المسروقة والمختلسة من المواطنين وخزينة الدولة. وهم لم يكونوا وحيدين في هذا: إنّ قادة الوحدات السياسية المتنازعة، و"أطرافاً مختلفة" أخرى يجب أن يُعرَّفوا أيضاً بجرائمهم في زمن الحرب.
في غياب أي تفكير بإرث الحرب الأهلية تزداد أهمية الذاكرة والسرد العام. وهذا صحيح خاصة حين لا يكون هناك سرد متفق عليه للماضي، والذي هو شرط لبناء جماعة سياسية تتطلع نحو مستقبل مشترك. إن لبنان بعيد جداً عن هذا، ولكن حين يُرتّب مشهد الذاكرة بكل سجلاته سيكون من الممكن لهذه الذكريات أن تلهم مستقبلات جديدة. يجب أن نعترف بالصدمات التي عانينا منها وسلّطناها على بعضنا بعضاً أثناء الحرب، وبالصدمات التي نواصل المعاناة منها عبر الصمت المفروض لحقبة "ما بعد الحرب الأهلية". يبدو هذا مهماً خاصة بما أن لبنان كان يترنّح ويتخبط على شفرة العنف منذ 2005.
إن الذاكرة أداة سياسية قوية، وتنتمي إلى كلّ واحد منا. إن ذكرياتنا عن هؤلاء الرجال سيئي السمعة صالحة سياسياً. إن ذكرياتنا هي ثناء لأولئك المدفونين تحت الركام، الذين قتلهم القناصون في الشوارع، الذين تمزقوا إلى أشلاء في انفجار سيارة، وقُتلوا في مخيم للاجئين أو قرية جبلية. إن حيواتهم وميتاتهم لا يُعثر عليها في كتب التاريخ، لا يوجد نُصُب تذكارية قومية أو عامة لهم، وما يزال قَتَلَتُهُم وحلفاء القتلة يشغلون جميع المراتب الحكومية. وبطرق كثيرة، إن ذكرياتنا هي الثناء الوحيد الذي تركه الموتى: إن ما يبقى هو أثر من حياتهم وموت غير مبرّر. أن نتذكر الحرب الأهلية ونمعن النظر فيها، وخاصة حين نشاهد نجومها المرعبين، الذين يرتدون الآن بزات الأعمال ويتحدثون بلغة الانتخابات، لا يعني أننا طائفيون. أن نتذكر جرائم هؤلاء الرجال لا يعني أننا غارقون في الماضي أو في أفكارنا الخاصة، أو غير مركزين على الأزمات الحالية السياسية والاقتصادية والاجتماعية في لبنان. أن نتذكر، يعني أن نلحّ على جعل ذكرياتنا تتحدث، أن نكون إنسانيين.
[ترجمه إلى العربية اسامة إسبر ]
[ اضغط/ي هنا للإطلاع على النسخة الإنجليزية]